الثلاثاء، 14 أبريل 2020

مقالة: شبهة في فصل الدين عن الشعر (2)

شبهة في فصل الدين عن الشعر


الأستاذ: أبو عبد الله الرتياني

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين..
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
استدل دعاة الضلال من العلمانيين، وتبعهم الجهلة والمغفلون، بقول الله عز وجل في سورة الشعراء: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، استدلوا بهذه الآيات الكريمة في قضية فصل الإسلام عن الشعر، وتأولوها تأولًا باطلًا؛ فقالوا: تجدون في هذه الآية دلالة واضحة صريحة على أن الله منح الشعراء حق الكذب الفني وحق حرية القول، الذي يعده بعض الناس من صميم الانحراف والخروج عن الدين.. وقد منحهم الله امتيازًا لم يمنحه لغيرهم؛ فلهم أن يقولوا ما لا يفعلون، وألا يحاسبوا على شيء قالوه في أشعارهم، وإنما يحاسبون على شيء وقع منهم.
وقالوا: وما الاستثناء الوارد في الآية إلا من باب الخصوص، والخاص لا يمكن أن يلغي العام، بل هو استثناء الضرورة الظرفية المحدودة الزمان والمكان والهدف.

فأقول، مستعينًا بالله وحده:
خبتم وخسرتم، ولا كثر الله أمثالكم! معاذ الله أن يدل كلام الله عز وجل على باطل، بل هو الحق وقوله الحق؛ ولكن أُتيتم من ذهنكم الكليل وفهمكم السقيم لكلام الرب سبحانه.

وبيان بطلان هذا الكلام من وجوه:
أولًا: أيها العلمانيون، متى كنتم تؤمنون بالقرآن حاكما لحياة البشر وتصرفاتهم؟!! 
إن كنتم لا ترونه أصلًا يصلح لتنظيم حياة البشر في كل زمان ومكان، فعلامَ تستدلون به؟!! آمنوا به أولًا ثم استدلوا بآياته لتقرير المعاني.
فإن قالوا: استدلالنا به هو من باب التنزل، وإلزامكم بما تدعون الالتزام به. قلنا: كذبتم، إنما تلبسون بهذا على الجهلة والمغفلين من المسلمين، حتى يخدعوا بكلامكم الغث الذي لا يسمن ولا يغني شيئًا.
نعم، نحن نؤمن بكلام الله عز وجل، ونلتزمه، ونتبع دلالاته، ولكن أنى لبني علمان أن يفهموه وهم يتقلبون في مستنقعات الرذيلة ويستضيؤون بزبالة أفكار الغربيين الكفرة والمستشرقين الجهلة؟!!
وإليكم -أيها الغافلون- بيان معنى هذه الآيات من كلام أئمة المسلمين، أرباب المعقول والمنقول، ممن يستضيؤون بنور الوحي..

ثانيًا: تفسير وبيان هذه الآيات من كتب أهل العلم والفهم يبطل ما ادعيتموه في معانيها:
وإليكم بعض أقوالهم في تفسير هذه الآيات الأربع:
الآية الأولى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}:
(وَالشُّعَرَاءُ):
- قال ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن": [لم يرد كل الشعراء].
- قال ابن عباس رضي الله عنه، كما عند ابن أبي حاتم في تفسيره: [الشعراء: المشركون منهم، الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه].
وعند الطبري وابن أبي حاتم في تفسيرهما عن زيد بن أسلم: [إنما هذا لشعراء المشركين وليس شعراء المسلمين].
- وقال أبو الحسن الواحدي في "التفسير الوجيز": [هم شعراء الكفار، كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعهم الكفار].
- وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز": [هذه الكناية هي عن شعراء الجاهلية].
- وقال أبو منصور الماتريدي في "تأويلات أهل السنة": [الشعراء عصاة الجن يتبعهم غواة الإنس].
- وقال أبو حيان في "البحر المحيط": [هذا عام يدخل فيه كل شاعر، والمذموم: من يهجو ويمدح شهوة محرمة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعًا]، وبنحو هذا القول في "المحرر الوجيز" لابن عطية.
(يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ):
أما الغاوون؛ فقد تعدد كلام أهل العلم في الذين وصفوا بالغي في هذا الموضع على أقوال:
- قال ابن عباس، كما عند الطبري وابن أبي حاتم: [هم الكفار، يتبعهم ضلّال الجن والإنس].
وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الناسخ والمنسوخ": [تفسير ابن عباس أحسن ما قيل في الآية، ويزيده بيانًا قوله: الكفار؛ يدل على صحة الاستثناء الذي بعده. وقوله: يتبعهم ضلال الجن والإنس؛ يدل على صحة أن الكلام عام].
- وقال ابن عباس أيضًا، كما عند الطبري وابن أبي حاتم: [هم السفهاء].
وقد تابعه على هذا القول: الضحاك بن مزاحم، كما عند الطبري.
- وقال ابن عباس أيضًا، كما عند الطبري وابن أبي حاتم: [هم الرواة].
وقد تبعه على ذلك: مقاتل بن سليمان في تفسيره، والفراء في "معاني القرآن"، وعكرمة -كما عند ابن أبي حاتم- وقال: [كان الشاعران يتقولان، فيكون لهذا تبع ولهذا تبع].
وتبعهم الزجاج في "معاني القرآن"، فقال: [الغاوون: الشياطين في التفسير. وقيل أيضًا: الغاوون من الناس؛ فإذا هجا الشاعر بما لا يجوز هوي ذلك قوم وأحبوه وهم الغاوون، وكذلك إن مدح ممدوحًا بما ليس فيه أحب ذلك قوم وتابعوه، فهم الغاوون].
وتبعهم الواحدي في "التفسير الوسيط"، فقال: [هم الذين يرددون هجاء المسلمين].
وقد قال ابن عطية في تفسيره: [أرجح الأقوال: هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر].
- وقال ابن عباس أيضًا، كما روى ابن أبي حاتم: [الغاوون هم غواة الجن].
- وقال عكرمة، كما عند الطبري وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة في مصنفه: [الغاوون هم عصاة الجن].
- وقال مجاهد في تفسيره: [الغاوون: الشياطين].
وتابعه قتادة، كما في تفسير يحيى بن سلام، وهو عند الطبري مختصرا، فقال: [الغاوون: الشياطين الذين يلقون الشعر على الشعراء الذي لا يجوز في الدين].
- وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، كما عند الطبري وابن أبي حاتم: [الغاوون هم المشركون].
- وقال أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن"، ونقله القرطبي في تفسيره: [الغاوون: الزائلون عن الحق].
- وقال ابن العربي في "أحكام القرآن": [الغاوون يعني الجاهلون؛ وقد يكون الجهل في العقيدة فيكون شركًا، ويراد به الكفار والشياطين، وقد يكون فيما دون ذلك فيكون سفاهة].
الخلاصة: يقول الطبري في تفسيره: [يقول تعالى ذكره: والشعراء يتبعهم أهل الغي لا أهل الرشاد والهدى. واختلف أهل التأويل في الذين وصفوا بالغي في هذا الموضع... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال فيه ما قال الله جل ثناؤه: إن شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومردة الشياطين وعصاة الجن، وذلك أن الله عم بقوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فلم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض، فدل ذلك على جميع أصناف الغواة التي دخلت في عموم الآية].
ومما ذكره بعض أهل العلم تحت هذه الآية:
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره: [قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ذم لأتباعهم، وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى]. ويزيد هذا القول بيانًا قول أبي جعفر النحاس في "إعراب القرآن": [دل هذا على أن الشعراء أيضًا غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك].
وقال ابن عاشور أيضا: [أدمجت الآية حالة من يتبع الشعراء بحالهم؛ تشويهًا للفريقين وتنفيرًا منهما].
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان": [هذا يدل على أن اتباع الشعراء من اتباع الشيطان، كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}].

الآية الثانية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}:
- قال ابن عباس، كما في صحيح البخاري وتفسيري الطبري وابن أبي حاتم: [في كل لغو يخوضون].
- وقال أيضا، كما عند ابن أبي حاتم: [في كل فن من الكلام يأخذون].
وتبعه على هذا: مقاتل بن سليمان في تفسيره.
- وقال الحسن البصري، كما عند ابن أبي حاتم: [قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها؛ مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فلان].
- وقال مجاهد، كما عند الطبري: [في كل فن يفْتنُّون].
وتبعه على هذا: مسلم بن خالد الزنجي في تفسيره.
- وقال قتادة، كما عند الطبري: [يمدحون قوما بباطل ويشتمون قومًا بباطل]. وبنحوه عند ابن أبي حاتم عن قتادة.
- وقال يحيى بن سلام في تفسيره: [يذهبون في كل واد من أودية الكلام].
- وقال الحكيم الترمذي في "المنهيات": [إنهم في أودية الضلالة يهيمون طعنًا وتعييرًا ومثالبَ للأموات ورميًا بالفرى لفروج المحصنات].
- وقال أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ": [هو تمثيل... في كل وجه من وجوه الباطل يفتنون؛ فيمدحون بالباطل والتزيد وكذا يهجون بالكذب والزور].
- وقال أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن": [شبهه بالهائم على وجهه في كل واد يعنُّ له، لما يغلب عليه من الهوى، غير مفكر في صحة ما يقول ولا فساده ولا في عاقبة أمره].
- وقال أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن"، ونقله القرطبي في تفسيره: [أي هم بمنزلة الهائم؛ لأنهم يذهبون في كل وجه من الباطل ولا يتبعون سنن الحق؛ لأن من اتبع سنن الحق وعلم أنه يكتب عليه قوله تثبتَ ولم يكن هائمًا يذهب على وجهه لا يبالي ما قال].
- وقال البغوي في "شرح السنة": [يغلون في المدح والذم؛ يمدحون فيكذبون ويذمون فيظلمون].
- وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز": [هذا عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث القول وباطله، وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن].
- وقال الرازي في "مفاتيح الغيب": [... ثم بين تلك الغواية بأمرين: الأول {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} والمراد منه الطرق المختلفة... وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق].
وقال القاضي البيضاوي في تفسيره: [لأن أكثر مقدماتهم خيالية لا حقيقة لها، وأغلب كلامهم في النسيب والحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار بالباطل ومدح من لا يستحقه].
والخلاصة: يقول الطبري في تفسيره: [يقول تعالى ذكره: ألم تر يا محمد بأنهم -يعني الشعراء- في كل واد يذهبون كالهائم على وجهه على غير قصد، بل جائرًا على الحق وطريق الرشاد وقصد السبيل، وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتنانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قومًا ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور].
ومما ذكره بعض أهل العلم تحت هذه الآية:
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره: [الرؤية هنا قلبية... والاستفهام تقريري؛ وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه. وجملة (أَلَمْ تَرَ) وما عطف عليها مؤكد لما اقتضته جملة (يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب].
وينظر تفسير الطاهر بن عاشور، فإن له كلامًا بديعًا في هذه الآية لم يسبق إليه.

الآية الثالثة: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}:
- قال ابن عباس، كما عند الطبري وابن أبي حاتم: [أكثر قولهم يكذبون].
قال ابن كثير في تفسيره: [وهذا الذي قاله ابن عباس هو الواقع في نفس الأمر؛ فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، فيتكثرون بما ليس فيهم].
- وقال أبو منصور الماتريدي في "تأويلات أهل السنة": [يقولون: فعلنا كذا وكذا، وهم كذبة]، وقال أيضًا: [يصفون ما لا يعلمون].
- وقال الفخر الرازي في تفسيره: [ثم بين تلك الغواية بأمرين... الثاني: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}، وذلك أيضا من علامات الغواة؛ فإنهم يرغّبون في الجود ويرغَبون عنه، وينفّرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة].
والخلاصة: يقول الطبري: [يقول: وإن أكثر قيلهم باطل وكذب].
وينظر أيضا "في ظلال القرآن" لسيد قطب؛ فإن له كلامًا في غاية الجمال في هذه الآية.

الآية الرابعة: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
- قال السيوطي في "الدر المنثور" في سبب نزول هذه الآية: [أخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} إلى قوله {مَا لَا يَفْعَلُونَ}، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله: {يَنْقَلِبُونَ}. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي حسن سالم البراد، قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ}، جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وهم يبكون، فقالوا: يا رسول الله، لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء، أهلكنا؟ فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فدعاهمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها عليهم. وأخرج عبد بن حميد والحاكم عن أبي الحسن مولى بني نوفل: أن عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت الشعراء يبكيان، وهو يقرأ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، حتى بلغ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: (أنتم)، {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قال: (أنتم) {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال: (أنتم) {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} قال: (الكفار). وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر حكمة)، قال: وأتاه قرظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، فقالوا: إنا نقول الشعر وقد نزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا {وَالشُّعَرَاءُ}، إِلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: (أنتم هم) {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قال: (أنتم هم) {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} قال: (أنتم هم)].
- قال الفخر الرازي في تفسيره: [إن الله لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة، استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة: أحدها الإيمان، وثانيها العمل الصالح، وثالثها أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق، ورابعها أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم] اهـ مختصرًا.
وقال القاضي البيضاوي في تفسيره قريبًا من هذا الكلام.
- وقال قتادة، كما في تفسيري يحيى بن سلام وابن أبي حاتم: [هذه ثُنيا الله في الشعراء وغيرهم].
- وقال ابن عطية في تفسيره: [هذا الاستثناء في شعراء الإسلام كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وكل من اتصف بهذه الصفة].
- وقال ابن كثير في تفسيره: [هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه من كان متلبسًا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحًا وذكر اللَّه كثيرًا في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وامتدح الإسلام وأهله مقابلة ما كان يذمه].

الخلاصة: يقول الطبري في تفسيره: [وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هذا استثناء من قوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، وذكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم كحسان بن ثابت وكعب بن مالك، ثم هو لكل من كان بالصفة التي وصفها الله بها].
ومما ذكره بعض أهل العلم تحت هذه الآية:
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في "الناسخ والمنسوخ": [الاستثناء عند سيبويه بمنزلة التأكيد؛ لأنك تبين فيه كما تبين بالتوكيد].
وقال أبو منصور الماتريدي في "تأويلات أهل السنة": [أي أنهم لا يتبعهم الغاوون، أو أن يكون الاستثناء من {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}؛ فإنهم لا يهيمون في كل واد، ويقولون ما يفعلون، ولا يقولون ما لا يفعلون، بل يذكرون الله كثيرًا، وينتصرون لرسوله ولأنفسهم من بعد ما ظلموا. فيكون الاستثناء في أحد التأويلين من الاتباع، وفي الآخر من الأئمة والقادة].

* وبعد هذا العرض الجميل لكلام أهل العلم في تفسير هذه الآيات، نخرج بنتيجة صريحة بينة لا لبس فيها، وهي:
أن الله عز وجل صنف الشعراء على صنفين:
1- صنف مذموم؛ وهم الذين يتبعهم الغاوون، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون.
2- صنف ممدوح؛ وهم الشعراء المستثنون بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}.
فكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح من غير حق، ولا يرتدع عن قول دنيء، فهو داخل في هذه الآية.
وكل تقي منهم يكثر من الزهد، ويمسك عن كل ما يعاب، فهو داخل في الاستثناء.

تنبيه: قد أغفلت العزو لكلام أهل العلم؛ لسببين: الأول تخففًا واختصارًا، والثاني: تحريكًا للنفوس علها تعود إلى هذه الكتب فترى الكلام الذي عليه نور الوحي، فلعله يعلق شيء منه في الأذهان، فيحرق بنوره شبهات الضالين.

ثالثا: معنى قول الله عز وجل: {يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}:
هو بيان لسبب استحقاقهم الذم، لا تقرير لهم بأن من حقهم أن يقولوا ما لا يفعلون.
ونزيد هذا بيانًا فنقول:
هل يقر الله عز وجل هؤلاء الشعراء المشركون في أن يقولوا ما لا يفعلون، وهم يهجون حبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم ويهجون أفضل الناس بعد الأنبياء وهم صحابة نبيه؟!! هل ترون أن الله عز وجل يقر هذا الكفر العظيم؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم.
ثم لو كان الشاعر مسلمًا في الأصل، ولكنه يقول ما لا يفعل، هل ترون أن الله عز وجل يرخص له بذلك وهو القائل سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) ولم يستثنِ ربنا من هذا النهي الشديد للمسلمين أحدًا، شاعرًا كان أو غير شاعر، ثم يخبر أن من فعل ذلك هو ممقوت عند ربه؟!
ثم كيف ترون أن الله يمنح الشعراء هذا الحق وهو القائل: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}؛ فأخبر ربنا أنه لا يحب من يجهر بالسوء، وأي جهر بالسوء أعظم من شاعر يقف على رؤوس الأشهاد فيكذب ويفتري ويقول الزور؟!!
ويلكم، ألا تعقلون؟!!

رابعًا: أما قولكم بأن الشعراء لا يحاسبون على شيء قالوه في أشعارهم، وإنما يحاسبون على شيء وقع منهم.
فهذا كلام مجمل يحتمل عدة معانٍ:
1- ما يقوله الشعراء لا يعد أفعالًا لهم على الحقيقة؛ وهذا المعنى باطل، فالشرع والعقل يسميان القول فعلًا:
ففي الشرع يقول الله عز وجل: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) فسمى القول فعلًا.
وعقلًا: إن الفعل هو عمل الأعضاء، واللسان عضو، والقول من عمل اللسان، فالقول فعل.
2- دعوى أن الشعراء لا يحاسبون أبدًا على ما يقولونه في أشعارهم؛ باطل شرعًا غير موجود في الواقع؛ فحتى القوانين السفلية الوضعية تقيدهم وتحاسبهم على ما يقع منهم من إساءة لبعض الشخصيات أو الأحداث التي يقدسونها.
3- دعوى أنهم لا يعاقبون على إقرارهم بفعل أشياء تستحق العقوبة من حد أو تعزير؛ لأن الغالب على أقوالهم الكذب الفني، وهذا الكذب رخص الله لهم فيه.
وهذا فيه حق وباطل؛ فالحق أن إقرارهم في شعرهم بما يوجب حدًّا لا يكفي، وذلك لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، لا لأن الله عز وجل أقرهم على ذلك ورخص لهم به، وذلك كان فعل الخلفاء الراشدين وملوك المسلمين.. ومع ذلك كان الخلفاء الراشدون وقضاة المسلمين يعزرون الشعراء على أقوالهم تلك، كما فعل عمر رضي الله عنه من حبسه للحطيئة وعزله لأحد ولاته، وكما يفعل القضاة من رد شهادة من يفعل ذلك منهم وعدم اعتبارها.. إلى غير ذلك.

خامسًا: أما قولهم: (وما الاستثناء الوارد في الآية إلا من باب الخصوص، والخاص لا يمكن أن يلغي العام.. إلخ):
فما هو إلا قول حق أردتم به باطلًا، ولازم فاسد، وفهم سقيم، وتعالم غث.
ولبيان هذا نقول:
1- نعم، الاستثناء من باب الخصوص، والخاص لا يمكن أن يلغي العام، بل يخرج بعض الأفراد من حكم العام ويجعل لها حكما خاصا بها؛ ولكن:
حكم العام (الشعراء) في الأصل هو الذم لا المدح، كما قررنا سابقا، والاستثناء أخرج بعض الأفراد (الشعراء المؤمنون المتقون) من حكم هذا العام وأعطاهم حكما خاصا بهم، وهو مدحهم والإذن لهم بالانتصار ممن هجاهم.
2- الاستثناء هو تأكيد للمعنى، كما ذكر أبو عبيد؛ فالاستثناء هنا لتأكيد ذم الشعراء، إلا من اتصف بما وصفهم الله به.
3- الاستثناء من المخصصات، والتخصيص لا يكون إلا لما هو عام، وفي هذا دليل على عموم ما قبله؛ وقد أشار إلى ذلك أبو عبيد أيضًا. وهذا يدل على أن الذم يكون لعموم الشعراء، إلا من اتصف بما أتى بعد أداة الاستثناء.
4- إن قلتم: حكم ما بعد الاستثناء هو حكم ما قبل الاستثناء، وما بعد الاستثناء هو حكم الضرورة لا الأصل، فنقول: هذه شبهة رد عليها الإمام أبو جعفر الطبري قديما، ولكن كانت من الطرف الآخر المقابل لكم، فقد قال الإمام الطبري في كتابه "مسند الآثار": [أرأيت قول الله جل ثناؤه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} مختلف فيه حكم المستثنى والمستثنى منه أم متفق؟ فإن زعموا أنه متفق فقد خالفوا في ذلك نص حكم الله في كتابه؛ لأن الله جل ثناؤه خالف بين أحكامهم، فأخرج المستثنى من حكم الذين قبلهم. وإن قالوا: بل هو مختلف، قيل لهم: فقد وضح إذن أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا، وأنهم هم الذين صفتهم خلاف هذه الصفة، وأما من آمن منهم وعمل الصالحات وذكر الله كثيرًا فغير مذمومين بل هم محمودون].
فكيف تساوون بين شعر أهل الإسلام والتقوى، وبين شعر الكفرة والفاسقين؛ بل تجعلون لشعر هؤلاء خصيصة وقوة وامتيازا وتجعلون شعر أهل التقوى ضعيفًا محكومًا بالضرورة؟!! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.
إن قلتم: هذا ما ورد عن نقاد العرب كالأصمعي وغيره.
قلنا: بل على أعينكم غشاوة، نكشفها عنكم -بحول الله ومدده- في المقال القادم، إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.

لتحميل المقالة بصيغة PDF اتبع ما يلي (الرابط في الأسفل):
طريقة التحميل
أولاً: اضغط على تخطي الإعلان

ثانياً: انتظر قليلاً، ثم اضغط على Allow أو السماح بالإذن في رأس الصفحة:
ثالثاً: يتم تحويلك إلى صفحة التحميل: ثم اضغط على التحميل بصيغة PDF:


انتهى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رياض الآداب

“ليكن غرضك من القراءة اكتساب قريحة مستقلّة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار، فكل كتاب يرمي إلى إحدى هذه الثلاث فاقرأه ― مصطفى صادق الرافعي




جميع الحقوق محفوظة لموقع رياض الآداب 2020 © . يتم التشغيل بواسطة Blogger.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *